على مر التاريخ الانساني كانت الحركات الطلابية في جميع انحاء ألعالم هي المحرك الرئيس لكل التغيرات الجذرية التي غيرت السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي في كل المجتمعات.
ونحن هنا نركز على دراسة شكل هذا التغير من الناحية النفسية والاجتماعية لا من الناحية التاريخية ، فالمؤرخون ينظرون عادة كما يقول مالك بن نبي الى تاريخ حدوث الظاهرة ضمن السياق الزمني للاشياء ولكن الفيلسوف وعالم الاجتماع ينظر الى الاسباب النفسية والاجتماعية والثقافية التي ادت الى تشكل الظاهرة وحدوثها ، فعلى سبيل المثال لا الحصر كان قيام الثورة البلشفية في روسيا نتيجة حتمية لثمانين عاما تقريبا من الاحداث والصراعات والنقاشات في كافة المستويات وعلى كافة الصعد ، فالمؤرخون ينظرون الى تسلسل الاحداث التي ادت في نهايتها الثورة البلشفية من بداية كتابات هيغل عن المادية التاريخية مرورا بكتابات ماركس وانجلز ونقدهما للاقتصاد البرجوازي وإصدار البيان الشيوعي وتشكل الاخويات الاممية ونفي العديد من الكتاب والمفكرين الروس الى اوروبا وعودتهم منها محملين بالافكار الشيوعية وقيام الحرب العالمية الاولى وما تكبده المجتمع الروسي من الام وويلات تحت حكم اسرة رومانوف حتى قيام الثورة وانسحاب روسيا من الحرب ،
هنا ينتهي عمل المؤرخ فعليا ولكن الفيلسوف وعالم الاجتماع يركز على اعماق هذه الظاهرة حتى يتمكن من فهم النزعة الانسانية في التاريخ ، فلن يكون مرضيا لفكره ان يسمع ان شخصا ما خرج من بلده لسبب ما سواء كان طالبا او منفيا او لأي سبب آخر وتأثر بافكار او ايدولوجية معينة ثم عاد إلى بلده ووجد الطريق ممهدا له ليشكل جمعية سياسية أو حزبا جديدا فاتبعه الناس وصار يستطيع التأثير في الدولة او الامة بحيث قاد ثورة على النظام السائد بكل هذه البساطة ، نعم لو نظرنا الى كل الحركات التي غيرت الواقع فسنجد ان هذا السرد التاريخي يبدو ركيكا ومضحكا ولا يقدم للقارئ اي تصور واقعي عن طبيعة العلاقة بين الاحداث والظواهر ومسبباتها ، وفي مثال آخر يمكن القول ان الثورة الفرنسية كانت نتيجة لثلاثمائة سنة من الاحداث التي سبقتها واستغرقت اكثر من مئة سنة لتحقق اهدافها .
وهنا نعود من المقدمة التي ضربنا فيها مثالين من التاريخ الى واقعنا الحالي الذي سيصبح فيما بعد تاريخا قد ينظر اليه اي انسان بعد مئات السنين كمجرد سلسلة من الاحداث المرتبطة بزمن معين دون ان يجد اي ترابط في الاحداث او دون استخلاص عبرة واقعية او ان ينظر الى الامور دون ان يدرك دوافعها واسبابها ،
وهنا سأركز على حدث الساعة الاكثر جدلا والذي قد يكون الاكثر تأثيرًا سواء في المستقبل القريب او البعيد ولكن لنفكك اسباب الظاهرة وعوامل تشكلها لنذهب بعدها الى الاستنتاج الذي يمكن ان نخلص اليه من دراسة هذه الظاهرة.
فما يعرف اليوم على مواقع التواصل الاجتماعي وشبكات الاعلام باسم ” تمرد طلاب امريكا” ليس مجرد انفعال عاطفي عبثي نتج عن لحظة من التعاطف مع الشعب الفلسطيني الذي يباد في غزة ، وليس من الممكن الاقتناع بأن كل هذا الحراك هو مجرد لحظة غضب على حدث بسيط ومجرد من الناحية التاريخية ، لذلك دعونا نتروى قليلا قبل ان نحكم على الاسباب قبل القفز الى نتيجة انه “نصر مؤزر ” في عيون البعض او ” مجرد استعراض اعلامي ” لا يهدف الا لاثارة الجدل وتعمية الرأي العالم عن ما يجري في فلسطين الحبيبة .
فلو نظرنا الى بداية هذا الحراك فسوف نجده قد حدث في جامعة هارفارد الأمريكية والتي تحمل رمزية مهمة جدا لدى جميع الاوساط العلمية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية في ألعالم بأسره ، ذلك لأن الكثير من النخب العالمية في كافة المجالات بداية من رؤساء الدول الكبرى والقادة السياسيين والاقتصاديين والعسكريين والفلاسفة والمشاهير قد تخرجوا منها ، وليس من السهل ابدا ان يستطيع اي طالب عادي ان يصل الى مثل هذه الجامعة ، فبالاضافة الى تكلفتها الباهظة التي قد تصل الى مئات الالاف من الدولارات فإن شروط القبول فيها صعبة جدا وقد تكون حلما لكل عباقرة الدنيا ، يضاف الى ذلك ان القيمة الاجتماعية والاقتصادية للعلاقات والصداقات والمعارف بين طلابها والبيئات التي تتفاعل معها هي ما يمكن ان ترسم مستقبل العالم من دون مبالغات ، وعطفا على ما سبق فإن هذه الجامعات تعد الخزان الرئيسي للعقلية الصهيونية في العالم ، وهذا ما يجعل من سؤالنا التالي سؤالًا جوهريًا يحتاج الى اجابة واقعية قد يستغرق الوصول اليها سنوات من البحث الدؤوب عن جوهر القضية التي تحدث لا عن الشكل الذي يظهر لنا من خلال وسائل الاعلام ، فما الذي حدث حتى يقوم طلبة اشهر المعاقل الصهيونية في ألعالم برفع الاعلام الفلسطينية ويطالبون بوقف الاتفاقيات مع الكيان الصهيونى وكل الكيانات والشركات المؤسسات المتعاونة والداعمة لها ؟!
لنحاول وضع بعض الاسئلة والاطروحات حول هذا الحدث لعلنا نتمكن من مساعدة من يرغب في البحث في هذه ان يركز بحثه على احداها او كلها .
فلنضع نفسنا اولا مكان طالب في احدى هذه الجامعات ، والذي سيضطر غالبا الى العمل والاقتراض لتغطية تكاليف دراسته ، مع العلم انه يرزح تحت عبء دراسي هائل ومنافسة شرسة مع الطلاب الاخرين في جامعته لتحصيل درجات النجاح اولا وللحصول على منحة دراسية كاملة او جزئية ثانيا ، يصطدم هذا الطالب في الواقع مع فضائح الفساد في هذه الجامعات ، وتخرج من ذات الجامعة فضائح للابتزاز والتحرش والاغتصاب لطلاب وطالبات من اجل الحصول على الدرجات والفرص والوظائف ، وتحصل الاحتجاجات على هذه الفضائح ولكن يتم استيعابها وامتصاص الصدمة وتطوى هذه القضايا طي السجل للكتب ويقدم عضو او مسؤول او اكثر قربانا للقضاء وتنتهي القصة وتعود الامور الى طبيعتها الشاذة دون وجود اي حل او معالجة للخلل الحاصل او اي تحسين في الواقع ، وهذا ما يجعل الامور محتقنة وقابلة للانفجار في اي وقت .
من ناحية اخرى فإن امريكا التي تشدقت طوال قرن كامل بحرية التعبير والديموقراطية تقوم باستجواب ومضايقة وابتزاز كوادر هذه الجامعات ومدرسيها في الكونغرس وبنفس الطريقة التي تعامل بها ” بوريس مورغان ” مع ضيوفه منذ بداية الحرب في السابع من اكتوبر ، ومع فصل الطلاب واعضاء هيئات التدريس وإجبار بعض رؤساء الجامعات على الاستقالة بسبب سماحهم للطلبة بالطلبة بالتعبير عن وجهة نظرهم بحرية !!
يضاف الى النقطتين السابقتين العوامل الاجتماعية والنفسية المكونة لطلبة هذه وهي انهم من الفئة العمرية الشابة التي تتمتع بالصفات الانفعالية وميلهم الى تحقيق الذات والبطولات السريعة ولا يأبهون لعواقب الامور ونتائجها بحكم قلة الخبرة في الحياة ، إلى جانب المزيد من العوامل المؤثرة على هذه الحركات من الجمعيات السياسية ومجموعات الضغط التي تؤثر في المجتمع الامريكي بأسره وليس فيّ الجامعات فقط ، كل هذه الظروف التي ذكرناها إذا اضفنا اليها ازمة اقتصادية خانقة و تغطية غير مسبوقة من الاعلام للاحداث والظروف بحيث لم يعد من الممكن إنكار هذا الكم الهائل من الفظائع أو التعتيم عليها .
إن كل هذه الظروف والمعطيات التي قدمنا لها في هذا المقال لا تتعدى كونها مجرد اسئلة او معطيات اولية للاحداث التي قد تحدث مستقبلا وستكون بما لا شك فيه عوامل اساسية لتغيير جذري في ألعالم بأسره ، ومثل ما أن هذه الظروف استغرقت سنوات حتى تصل الى السطح وتتصدر وسائل الاعلام فإنها قد تحتاج الى سنوات أخرى حتى تظهر لنا نتائجها من الفظائع أو التعتيم عليها .
إن كل هذه الظروف والمعطيات التي قدمنا لها في هذا المقال لا تتعدى كونها مجرد اسئلة او معطيات اولية للاحداث التي قد تحدث مستقبلا وستكون بما لا شك فيه عوامل اساسية لتغيير جذري في ألعالم بأسره ، ومثل ما أن هذه الظروف استغرقت سنوات حتى تصل الى السطح وتتصدر وسائل الاعلام فإنها قد تحتاج الى سنوات أخرى حتى تظهر لنا نتائجها .
محمد سالم النعيمات