العربي الجديد -
عقب عملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر/تشرين الأول من عام 2023 وما تلاها من تنامٍ للعنف من قبل الجيش الإسرائيلي والمستوطنين بحق الفلسطينيين في الضفة الغربية، واصلت روما تصدير الأسلحة الإيطالية إلى إسرائيل متجاهلة جميع النداءات بوقف تلك الصادرات. وفي هذا السياق، ذكرت مجلة “ألتريكونوميا” الإيطالية الشهرية المستقلة في تحقيق تضمنه عددها الأخير لشهر يناير/كانون الثاني 2025 وحمل عنوان “أسلحة وذخائر إيطالية في أيدي المستوطنين في الأراضي المحتلة”، أن التدفق، الذي لم ينقطع، للأسلحة الإيطالية نحو إسرائيل ما زال يغذي سوقاً شهد في العام الماضي توسعاً غير مسبوق، في طريقه لإثراء قطاع لا يحظى دائماً بالرقابة الكاملة على التوزيع النهائي للمنتجات المصدرة. وأضافت المجلة أن ما يثير القلق بخصوص هذه الصادرات هو أن تلك الأسلحة الإيطالية إلى إسرائيل الموجّهة بشكل رسمي للاستخدام المدني، ينتهي بها المطاف في أيدي المستوطنين الذين يعيشون في مستوطنات غير قانونية ويعززون سوقاً خارج نطاق السيطرة.
ونقلت عن المحلل في المرصد الدائم للأسلحة الخفيفة وسياسات الأمن والدفاع (Opal) جورجو بيريتّا قوله إن “الأمر الأشد خطورة، في هذا السياق، هو أن إيطاليا واصلت، مع عدم وقفها إرسال الأسلحة الإيطالية إلى إسرائيل بعد السابع من أكتوبر 2023، التصدير في الأشهر التالية في عام 2024”. وتابع بيريتّا أن “معظم تلك الصادرات يتعلق على وجه الخصوص بأسلحة وذخائر من نوع شائع، أي ليست مخصصة للاستخدام العسكري على وجه التحديد”، مستدركاً بقوله إن “ذلك لا يعني أنها أقل خطراً، إذا أخذنا في الاعتبار أن هذه الأسلحة الإيطالية من الممكن أن يقتنيها المستوطنون أنفسهم الذين يحتلون الأراضي الفلسطينية بشكل غير قانوني”. وأوضحت المجلة أن الحصول على رخصة شراء أسلحة في إسرائيل أصبح أكثر سهولة من حجز طاولة في مطعم. وبفضل التعديلات التي أدخلها وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير، فإنه يكفي إثبات الالتحاق بثلاث دورات للرماية في غضون العشرين سنة الأخيرة وإجراء مقابلة هاتفية. على ضوء هذه القواعد، جرى تقديم 300 ألف طلب لاقتناء سلاح في أقل من ثلاثة أشهر، ما أفرز تداول عشرات الآلاف من الأسلحة، غالباً في أيدي أشد المستوطنين تطرفاً.
تصدير الأسلحة الإيطالية إلى إسرائيل مستمر
من بين العلامات التجارية التي برزت في هذا السوق، شركتا بيريتّا وفيوكّي. كلتا الشركتين لديهما تاريخ طويل في التصدير للسوق الإسرائيلي، إذ تكون أسلحة بيريتّا وذخائر فيوكّي بشكل معتاد في المتاجر وميادين الرماية في المستوطنات غير القانونية في الضفة الغربية والقدس الشرقية وهضبة الجولان السورية المحتلة. تجدر الإشارة إلى أن ثمة ميدان رماية إسرائيلياً شهيراً هو Caliber 3 بالقرب من مستوطنة أفرات، يستخدم مسدسات بيريتّا أيضاً لتدريب الأطفال. ولم ينته الأمر عند هذا الحد، حيث تُستخَدم مجسمات لفلسطينيين يرتدون الكوفية التقليدية بوصفها أهدافا في ميادين رماية أخرى، ما يدل كيف أن هذه التجارة ليست فقط صفقة اقتصادية وإنما هي رمز للقمع، وفقاً للمجلة الإيطالية. من جهتها، صرحت شركة فيوكّي بأنها أوقفت صادراتها لإسرائيل في يناير 2024، إلا أنه تبيّن أن آخر شحنة صدّرتها الشركة كانت في مارس/آذار الماضي وبررتها الشركة بأنها كانت مجرد عملية استبدال. وقالت المجلة: “إذا كنتم تظنون أن فيوكّي لا سيطرة لها على مآل ذخائرها، فإنكم مخطئون. فقد اعترف رئيس الشركة ستيفانو فيوكّي نفسه بقوله: لا نستطيع استبعاد أن تكون منتجاتنا معروضة للبيع في المستوطنات غير القانونية”.
وأشارت المجلة إلى أن بيانات جهاز الإحصاء القومي الإيطالي توضح أن إيطاليا صدّرت في الفترة بين شهري يناير وسبتمبر/أيلول 2024 إلى إسرائيل أسلحة وذخائر بأكثر من 5 ملايين يورو، من بينها مليونا يورو قيمة شحنات خرجت من مصانع بيريتّا وفيوكّي وحدهما. ولفتت إلى أن هذه الأرقام تدحض تصريحات الحكومة الإيطالية، على لسان وزير الخارجية أنطونيو تاياني، التي أكدت مراراً وتكراراً وقف صادرات الأسلحة الإيطالية إلى إسرائيل التي وُزعت فيها بعد 7 أكتوبر 2023 آلاف المسدسات والبنادق من عيار “إم-16” والمدافع الرشاشة على المستوطنات، بينما رتبت المجالس المحلية للبلديات نفسها من أجل شراء أسلحة أخرى بفضل متبرعين من جهات خاصة.
استراتيجية لإقصاء الفلسطينيين
من جهته، رأى الكاتب والباحث الإيطالي جوسيبي غاليانو، رئيس مركز “كارلو دو كريستوفوريس” للدراسات الاستراتيجية، في تحليل نشره موقع “إنسايد أوفر” الإيطالي تحت عنوان “الأسلحة الإيطالية التي تُفتَح نيرانها في الأراضي المحتلة من قبل إسرائيل. جانب آخر من صنع في إيطاليا”، في التاسع من يناير الحالي، أن “هذه العسكرة ليست فقط مشكلة أمنية، وإنما هي استراتيجية منهجية لإقصاء الفلسطينيين، الذين يُطردون من أراضيهم لإفساح المجال للمستوطنات غير القانونية. وهكذا، فإن كل مستوطن مسلح تقابله أسرة فلسطينية أُجبرت على الفرار”. واعتبر غاليانو أن “صنع في إيطاليا، في هذا السياق، ليس مدعاة للفخر. والحقيقة أن الأسلحة الإيطالية لا تغذي فقط سوقاً خارج السيطرة، وإنما تسهم بشكل مباشر في ضمان استمرارية صراع يبدو بلا نهاية”، مشيراً إلى أنه “بينما يتوارى المنتجون خلف التصاريح والإجراءات الرسمية، فإن من يدفع الثمن الأعلى هم الفلسطينيون، ضحايا عنف يواصل بلدنا تغذيته”.
وكانت مجلة “ألتريكونوميا” قد ذكرت في تقرير نشرته في عددها الصادر في أكتوبر الماضي، أن روما صدّرت في الربع الأخير من عام 2023، وفقاً لبيانات جهاز الإحصاء القومي الإيطالي “Istat”، أسلحة وذخائر إلى إسرائيل بلغت قيمتها 2.1 مليون يورو، وفي ديسمبر/كانون الأول 2023 وحده لامست تلك الصادرات 1.3 مليون يورو. وسلّطت البيانات الضوء على أنماط أخرى من الصادرات، وعلى وجه الخصوص شحنة مكونات وقطع غيار طائرات حربية، انطلقت من مدينة فاريزي التي تحتضن مقر شركة ألينيا إيرماكّي (التابعة لمجموعة ليوناردو).
وحول أهمية الحراك المناهض لتصدير الأسلحة الإيطالية إلى إسرائيل قال الكاتب الإيطالي، رئيس تحرير مجلة “ألتريكونوميا” دوتشو فاكّيني، لـ”العربي الجديد” إنه “من الضروري مواصلة التحقيقات الصحافية وبالتالي الضغط الشعبي على الحكومة الإيطالية لكي تتحلى بالشفافية في ما يتعلق بتصدير معدات التسليح العسكرية والمدنية إلى إسرائيل”. وأضاف أن “وقف هذه الصادرات، حتى وإن صار متأخراً، أمر مُلحّ بالنظر إلى الأفعال الوحشية اللاإنسانية المروعة الجارية حالياً في غزة وإلى أعمال العنف في الضفة الغربية من قبل الجيش الإسرائيلي والمستوطنين”. واستدرك فاكّيني أنه لا يرى “في الآفاق آمالاً كبرى مع هذه الحكومة الإيطالية الحالية، إذا أخذنا في الاعتبار أنها لم ترد قط توضيح كل ما يتعلق بتلك الصادرات، التي يرجع الفضل في ما رشح بشأنها إلى التحقيقات الصحافية فقط. ويكفي أن نطالع البيانات لنعرف أن الصادرات، سواء العسكرية أو المدنية، لم تتوقف”. وتابع: “سوف نمضي قدماً في عملنا بلا خوف. وعلى الرغم من التهديدات بالملاحقة القضائية للمجلة من بعض الشركات، فإننا مطمئنون لأن ما كتبناه كان قائماً دائماً على وقائع حقيقة لا تقبل النقاش. لن يرهبونا”.