من المجموعة القصصية "الركض على الحبل"
للكاتبة "شيماء زايد"
الوجوه المكررة كل صباح تتماهى.. تتقارب.. تتمازج، ننتظر العرافة الطيبة..
فتأتي عربة اليقطين بخيولها المسحورة، وتبقى العرافة على موعد دائم لا
يجيء.. لعلها يومًا ستأتي تلقي تعويذتها فنعود لشارع جانبيٍّ مليءٍ بالصبية،
كرة من الجوارب القديمة.. سبت دائم التدلّي لنؤرجحه.. وتهليل وصفير
وركض تجاه المزلقان، كلما أصدر إنذاره مُنبهًِّا إلى مرور أحد القطارات العابرة.
أما وقد أصبح القطار يحمل بعض ملامح ركّابه الدائمين، فانعكست على
ملامحهم محطات الوصول.. كانت هناك محطة انتظار دائمة مُقامة بين
عينيها.
دائمة الترحال هي.. فقطار العمر يحملها من سنوات تتعدى العشر.. في
السنوات الأولى أرهفت السمع لصرير القضبان واحترفت الصمت.. متشبثة
بكتاب.. أيّ كتاب تطالع فيه بعضًا من ملامحها المنسية.. لوح القماش..
الفرشاة.. رائحة ألوان الزيت.. وقصيدة ما زالت أبياتها تتأرجح في الذاكرة..
أما السنوات التالية.. فلم يتبق منها غير ثرثرة الراكبين ورائحة الشحم.. اجترار
مشاقّ الذهاب والعودة، ووجه فتاة مسدلة العينين رسمته فوق قميصها القطنيّ
الأسود.
كل شيء يذبل بالاعتياد.. تحيله الأيام إلى اللون الرمادي الكالح.. كرسمة
سريعة تنفلت من بين أناملها خلسة، بقلم رصاص تتعمد إبعاد سنه عن الورقة؛
كي لا يترك آثاراً ثقيلة فوق أوراق العمل..
لذا لم تعد أذناها تشتاق لسماع الصوت المحبب لها، حيث وشوشة القلم
للورقة البيضاء.. بعدما اعتادت صوت الماكينات وعمال الإنتاج..
العرافة لا تجيء.. وكذلك عربة اليقطين.. لماذا يعلن عصيانه وتمرده ويرفض
التحرك؟! جئناك يا صاحب القضبان نسأل عن وجهتنا.. عن محطات
التوقف.. عن إمكان محو تلك الذكريات المؤلمة من الطريق، وعن تذاكرنا
التي تحمل أرقامًا باهتة تكاد تكون محذوفة.
هل لك أن تجيب.. أم أنه فقط ذلك الفراغ المستفز حتى من صفيرك
المزعج؟!
أنعود أدراجنا.. أم نلتمس طريقًا أخرى؟!
لم تكن تدرك أنها بقرار العودة.. أعادت بعض الأشياء التي فقدتها.. انتزعتها
من أسفل «الفلنكات » الرابضة بين القضيبين، كان عليها أن تدرك لِمَ العودة،
وفيمَ؟؛ لتعود لأشيائها المنسيّة.. تملأ فراغ الورقة بالرصاص.. تصور كل
مساحات الضوء والظلّ داخلها.. وتستحضر كل الأسئلة التي دفنتها مع كل
الأحلام المنسية..
متى بدأت تستخدم بعض الألوان الباهتة الخجول؟ متى انطلقت مرة أخرى
لجرأة اللون؟ ومتى عادت تصنع الألوان وتركبها من جديد؟ وفق ذلك اليقين
القديم بأن اللون إن لم ينَْسَبْ منها وتملأ رئتيها برائحته.. لا يصلح للرسم،
لا يهم..
المهم أن كل الجدران حولها أصبحت تنطق ببعضٍ منها.. بُعِثَ بعد طول
رحيل.. وأن عليها استكمال اللوحة المكفنة هناك من زمن بعيد..
اللوحة الصارخة بكل الألوان التي مزجتها، ولم تكتمل..
في انتظار ذلك اللون المجهول.. اللون القادر على طلاء أفكار عاشت فيها
حتى أفنتها بالبهجة.. لون الانتظار..
ربما يأتيها اللون ذات صباح.. على رصيف محطة القطار؛ ليسكن بين عينيها
دون رغبة في السفر.
https://www.facebook.com/Shimaa.H.Zayed?mibextid=ZbWKwLالكاتبة : شيماء زايد