جريدة الأخبار
من أخطر ما يمكن أن تواجهه القرى المحتلة على الحافة الأمامية في جنوب لبنان هو تكيّف الواقع اللبناني مع الاحتلال، والتسليم به باعتباره أمراً واقعاً يتعذّر إجباره على الاندحار من دون التدحرج إلى مواجهة عسكرية كبيرة لا يريدها أحد. وبالتالي، توجيه رسالة خاطئة، يتوهّم معها العدو بأن مجتمع المقاومة تعب وقرّر تجنّب تحدّي الاحتلال ولو على حساب عدد من القرى الأمامية. ويندرج ضمن هذا المفهوم ترك مستقبل هذه القرى للمداولات بين تل أبيب وواشنطن المستعدة لتوفير غطاء لأي خطوة يقدم عليها العدو ما دامت لا تنطوي على أي تداعيات مقلقة أو مُربكة. كما ثبت أن هذه المخاطر تتعاظم أكثر إذا انتظر أهل هذه القرى الاتصالات الرسمية مع الدولة اللبنانية، والتي أدّت إلى شرعنة الانقلاب على اتفاق وقف النار، ولم تنجح في صدّ العدوان الإسرائيلي المستمر منذ ما بعد 27 تشرين الثاني الماضي.
أولى نتائج الزحف الشعبي منع تغييب القرى المحتلة، وفرضها كقضية ملحّة لها الأولوية في المعالجة، ما وجّه ضربة للرهان على التمديد الهادئ لقوات الاحتلال على أمل أن يتحول بمرور الوقت إلى وجود روتيني. وأسقط فرضية فرض حزام أمني، عبر إبقاء القرى الأمامية خالية من السكان، كما دعا رئيس مجلس الأمن القومي السابق اللواء غيورا ايلاند. وهو سيناريو زادت دوافعه – ويتم التعبير عنه في بعض الأدبيات الصهيونية البارزة – بعد فشل العدو في القضاء على المقاومة وقدراتها.
ليس سراً أن أعداء المقاومة ولبنان كانوا يراقبون بدقّة المؤشرات التي تكشف عن اتجاهات بيئة المقاومة في أعقاب الحرب التدميرية الهائلة والضربات القاسية التي تلقّتها المقاومة، وتحديداً بعد استشهاد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله. وهو أمر ترتقي رسائله إلى المستوى الذي يمكن أن تُبنى عليه تقديرات وخيارات تتجاوز في مفاعيلها مستقبل القرى المحتلة. لكن الزحف الشعبي بدَّد الكثير من الأوهام في هذا المجال، وأظهر أن هذه البيئة لا تزال متمسكة بالمقاومة كعقيدة ومسار وخيار، بل لا تزال مستعدة لتقديم مزيد من التضحيات، وأبعد ما تكون عن اليأس والإحباط اللذين يؤديان إلى الاحتلال والتبعية. وكشف بذلك هامشية تأثير الحملات السياسية والإعلامية التي استهدفت، ولا تزال، وعي هذه البيئة وإرادتها.
فرض شعب المقاومة، بمبادرته التي أربكت التقديرات والحسابات، حضوره الفعال في مواجهة أي ترتيبات تتعلّق بمستقبل القرى الحدودية. ولم يعد ممكناً حسم مستقبلها من دون الأخذ في الحسبان موقفه وخياره. وينبغي أن يكون قد أصبح واضحاً أنه لن يكون هناك نهوض بلبنان إلا بجميع مكوّناته ومناطقه وفي مقدمتها جنوب لبنان عبر توفير الحماية لأهله من العدو الاسرائيلي فضلاً عن دحر الاحتلال. كما لن يكون بالإمكان إمرار أي صفقات على حسابهم. وأهمية هذا الحراك الشعبي أن المجتمع المقاوم فرض نفسه ركناً أساسياً في المعادلة، سيبقى حاضراً لدى جهات القرار في تل أبيب وواشنطن.
إذا ما كان العدو والمتربصون يراهنون على تعب جمهور المقاومة وتراجعه في ظل إصرار العدو ونيرانه التي يوجهها إلى المدنيين، فقد أطلق الزحف الشعبي دينامية ستزداد تصاعداً كلما تعززت فرضية بقاء الاحتلال. وبذلك يكون قد أكمل مشهدي المقاومة والانتصار، وأسّس لمعادلة بديلة عن خيارات الديبلوماسية التي لم تنجح في دفع أي خطر أو اعتداء طوال مدة اتفاق وقف النار منذ 27 تشرين الثاني الماضي. وهكذا تحول الزحف الشعبي إلى نقطة تحول ستكون لها مفاعيلها على مجمل الواقع السياسي والأمني، وأنتج واقعاً يرتقي إلى مستوى الإنجازات التي تؤسّس لنتائج إستراتيجية.
تتويجاً لما تقدم وتمهيداً للتحرير الكامل، استطاع الزحف أن يُحرِّر عدداً من القرى التي كان العدو يمنع سكانها من الدخول إليها. وأكد أول من أمس، مرة أخرى، أنه سيواصل حراكه أياً كانت الخيارات التي سيلجأ إليها العدو ومهما ترتب عليها، منعاً لتكريس الاحتلال في ما تبقى من قرى. وإذا لم تكفِ رسائل شعب المقاومة في تبديد التصورات التي يبني عليها أعداء الداخل والخارج خياراتهم، سيجد هؤلاء أنفسهم أمام المزيد من الخطوات التصاعدية.