بنيامين نتنياهو وإيتمار بن غفير في الكنيست، 29 ديسمبر 2022 (عمير ليفي/Getty)

العربي الجديد -

بعد مرور نحو خمسة عشر شهراً من حرب الإبادة على غزة، توصلت حركة حماس والحكومة الإسرائيلية إلى اتفاق تبادل أسرى ومحتجزين ووقف لإطلاق النار في غزة ينفذ على ثلاث مراحل، بوساطة قطرية ومصرية، وضغط كبير من الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب. وجاء الاتفاق بعد جولات عديدة من المفاوضات بدأت بعد شهر من بداية حرب الإبادة على غزة، وقد توصلت “حماس” وإسرائيل إلى اتفاق يتيم لتبادل الأسرى في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، أطلقت “حماس” حينها بموجبه سراح 80 محتجزاً إسرائيلياً من النساء والأطفال وكبار السن، بالإضافة إلى 25 أجنبياً، مقابل إطلاق سراح قرابة 250 أسيرة وطفلاً فلسطينيين من السجون الإسرائيلية، وإدخال مساعدات إنسانية من أدوية وأغذية إلى قطاع غزة.

نضج ظروف التوصل لاتفاق

التوصل إلى اتفاق تبادل أسرى ومخطوفين جاء بعد تحولات أمنية عسكرية وسياسية إسرائيلية داخلية في الأشهر الأخيرة، ساهمت في نضج الظروف للتوصل إلى اتفاق، وإلى تراجع قدرة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو على المراوغة وتعطيل التوصل إلى اتفاق كما حصل خلال العام الماضي. أهم هذه التحولات ما تعتبره إسرائيل إنجازات عسكرية استراتيجية حقّقها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، وتوجيه ضربة قوية لقدرات حزب الله في لبنان، وانهيار نظام بشار الأسد في سورية، وتغيير الحالة الاستراتيجية الإقليمية، ما اعتُبر ضربة قاسية لمحور إيران في المنطقة. هذه التحولات عزّزت من موقف المؤسسة العسكرية والأمنية في إسرائيل التي دعمت، منذ أشهر عدة، التوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزة والتوصل إلى اتفاق لتبادل الأسرى والمخطوفين، وأوضحت أن الإمكانية الوحيدة لإطلاق سراح الأسرى والمخطوفين الأحياء هي بواسطة اتفاق مع حركة حماس.

التحول الآخر، وبطبيعة الحال الذي تأثر من التحولات العسكرية والأمنية، كان التحسن في مكانة نتنياهو السياسية. إذ وسّع نتنياهو التحالف الحكومي عبر ضمّ حزب “اليمين الرسمي” برئاسة جدعون ساعر وأضاف بذلك أربعة مقاعد للتحالف الحكومي، وقلّل من إمكانيات الابتزاز من قبل وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش، اللذين ضغطا دائماً لمنع وقف الحرب على غزة ورفضا التوصل إلى اتفاق لتبادل الأسرى والمخطوفين. تحسن مكانة نتنياهو السياسية، كما توضح غالبية استطلاعات الرأي العام، والتوقع بحصول حزب الليكود على قرابة 25-26 مقعداً في انتخابات الكنيست المقبلة، وتراجع حدة تعلق التحالف الحكومي بأحزاب اليمين المتطرف، والدعم الجماهيري للتوصل إلى اتفاق تبادل أسرى ومخطوفين، عوامل أتاحت توسيع هامش المناورة السياسية لدى نتنياهو، ودفعت نحو التوصل إلى اتفاق تبادل.

بالإضافة إلى التحولات في العوامل الداخلية، لعب الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب دوراً هاماً في الضغط الفعّال على نتنياهو للتوصل إلى اتفاق. فقد نشر الإعلام الإسرائيلي أن الموفد الخاص لترامب للشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، جاء خصيصاً إلى إسرائيل في زيارة غير معلنة يوم السبت 11 يناير/كانون الثاني الحالي، قادماً من الدوحة، وفرض لقاءً على نتنياهو يوم السبت صباحاً، ليوضح مطلب ترامب التوصل إلى اتفاق تبادل قبل دخوله إلى البيت الأبيض يوم الاثنين المقبل في 20 يناير. نجاح ترامب في الضغط على نتنياهو والإسراع بالتوصل إلى اتفاق يوضح تراخي وفشل الرئيس المنتهية ولايته جو بايدن باستعمال أدوات ضغط على نتنياهو منذ بداية الحرب.

الأسئلة المفتوحة في اتفاق غزة

على الرغم من التوصل إلى اتفاق تبادل أسرى ومخطوفين ووقف إطلاق النار، هناك العديد من الأسئلة التي ما زالت مفتوحة، ومن الصعوبة بمكان تكهن الأجوبة عنها في هذه المرحلة. أبرزها: هل حققت إسرائيل أهدافها الاستراتيجية من حرب الإبادة على غزة؟ وماذا عن مصير غزة في اليوم التالي للحرب؟ من سيحكم ويدير القطاع؟ ما مصير الضفة الغربية، وهل سيعوض نتنياهو اليمين المتطرف بخطوات متطرفة في الضفة؟ وماذا سيكون مصير حكومة نتنياهو؟ والأهم، هل ستلتزم الحكومة الإسرائيلية بالاتفاق فعلاً وتنفذ مراحله الثلاث، بما في ذلك الانسحاب الكامل من قطاع غزة وعودة النازحين إلى بيوتهم وأحيائهم المدمرة، وانتهاء الحرب بشكل كامل؟

استغلت الحكومة الإسرائيلية الوضع الناشئ بعد هجوم “حماس” في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، والرغبة في الانتقام من الشعب الفلسطيني كافة، والتعاطف الدولي مع إسرائيل، وشنّت حرب إبادة على قطاع غزة، وبدأت بعمليات عسكرية في الضفة الغربية كانت الأوسع منذ الانتفاضة الثانية. من بين الأهداف الرئيسية لحرب الإبادة على غزة، كما أعلنت الحكومة الإسرائيلية حينها، القضاء على قدرات “حماس” العسكرية، والقضاء على قدرة “حماس” المدنية والإدارية، ومنع أي تهديد عسكري مستقبلي من قطاع غزة، وبعدها أضيف هدف إعادة الأسرى والمخطوفين الإسرائيليين في القطاع. إلا أن اليمين واليمين المتطرف لم يخفيا رغبتهما في استغلال الحدث للانتقام من كل الشعب الفلسطيني، والعمل على تهجير سكّان غزة، وإعادة الاستيطان الإسرائيلي إلى القطاع، وطبعاً إعادة الاحتلال العسكري الكامل لغزة. نتنياهو لم يبدِ في أي وقت معارضة علنية لهذه الأطماع، وأعلن مراراً أن هدف الحرب تحقيق النصر المطلق على “حماس”، ومنها طبعاً على الشعب الفلسطيني، بحيث تؤدي نتائج الحرب إلى وأد الطموح الطبيعي للشعب الفلسطيني في إقامة دولة مستقلة وفي الحرية وإنهاء الاحتلال.

رغم الدمار الهائل في غزة، وتحويل القطاع إلى مكان تصعب فيه الحياة البشرية، وقتل نحو خمسين ألف فلسطيني وإصابة أكثر من مائة ألف آخرين، إلا أن اتفاق وقف إطلاق النار، يوضح عدم تحقيق إسرائيل جميع أهداف الحرب الاستراتيجية المعلنة. صحيح أن المؤسسة العسكرية ترى أنها حقّقت إنجازات عسكرية جدية في الحرب على غزة وعلى لبنان، وأنها غيّرت الحالة الاستراتيجية في الشرق الأوسط، إلا أنها لم تحقق النصر المطلق الذي وعد به نتنياهو على مدار الحرب، التي تعاملت معها إسرائيل “كحرب وجودية” أو حرب “استقلال ثانية”. كذلك لم تؤد الحرب إلى تهجير سكان قطاع غزة إلى خارج القطاع، ولم تؤد إلى إعادة الاستيطان الإسرائيلي لغزة، والأبرز أنها لم تؤدِ إلى استعادة الأسرى والمخطوفين بواسطة الضغط العسكري كما صرّح مرات عدة وزير الأمن السابق يوآف غالانت، بل إنها حتى لم تقضِ كلياً على قدرات “حماس” العسكرية أو الإدارية.

التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار ومراحل التنفيذ الثلاث، لا يوضح ما سيكون عليه مصير غزة في اليوم التالي للحرب، ويُبقي القطاع دون ترتيبات واضحة لليوم التالي، لا إسرائيلياً ولا فلسطينياً ولا دولياً. ويشي ذلك بأن حركة حماس ستستمر في إدارة حياة الناس اليومية، بصيغة أو بأخرى، وقد يكون وجود ما للسلطة الفلسطينية “المحسّنة” كما تسميها الإدارة الأميركية المنتهية ولايتها. بذلك تكون إسرائيل قد فشلت لغاية الآن في خلق واقع سياسي مختلف في غزة بعد الحرب. إلا أن ذلك قد يشكل مدخلاً لإسرائيل لخرق الاتفاق مستقبلاً، والاستمرار في عمليات عسكرية، ولو كانت محدودة وموضعية. وستستغل إسرائيل ذلك، في حجة لاستمرار الحصار على غزة والتنكيل المستمر بسكان القطاع.

بإمكان إسرائيل أيضاً، اختراع حجج لعدم تنفيذ المرحلة الثالثة والأخيرة من الاتفاق، خصوصاً بعد أن تضمن تحرير الأسرى والمخطوفين الأحياء كافة، وتحاول التهرب من الالتزام بالانسحاب الكامل من قطاع غزة، خصوصاً من محور نتساريم ومحور صلاح الدين (فيلادلفيا)، لإبقاء سيطرتها العسكرية على قطاع غزة.

مصير حكومة نتنياهو

حزبا اليمين المتطرف، “الصهيونية الدينية” برئاسة سموتريتش، و”العظمة اليهودية” برئاسة بن غفير، أعلنا معارضتهما للاتفاق. بن غفير هدّد أيضاً بالانسحاب من الحكومة، ودعا سموتريتش إلى الانضمام إليه، وأوضح أنه نجح في إفشال صفقات سابقة بتهديده تفكيك التحالف الحكومي. إلا أن بن غفير لم يعلن لغاية الآن أنه سينسحب من التحالف في حال إقرار الاتفاق. أما سموتريتش، فوضع عدة شروط أمام رئيس الحكومة لبقائه في التحالف الحكومي، حتى لو أقرّ الاتفاق، منها الالتزام بإكمال مهمة هزيمة “حماس”، والالتزام المسبق بالعودة إلى القتال بعد اليوم الثاني والأربعين من الاتفاق، أي بعد انتهاء المرحلة الأولى، إذا لم يسقط نظام “حماس”، بالإضافة إلى تخفيض المساعدات الإنسانية لغزة والاستيلاء الدائم على الأراضي في القطاع واعتماد إجراءات لتشجيع هجرة سكّان غزة.

مقابل بقاء سموتريتش وبن غفير في الحكومة، يمكن أن يتجه نتنياهو لتعويضهما عبر سياسات توسيع الاستيطان والسيطرة في الضفة الغربية، وفي قضايا داخلية. ويمكن لنتنياهو الادعاء أن هناك ملفات مصيرية ستكون على الحكومة الحالية مهمة متابعتها وإتمامها، منها الملف النووي الإيراني والتطبيع مع السعودية. هذا قد يضمن استمرار حكومة اليمين الصرف لعدة أشهر إضافية. لكن حينها سيكون على الحكومة مواجهة ملفات داخلية حارقة يمكن أن تشكل تهديدات على تماسك التحالف الحكومي، منها ملف سنّ قانون التجنيد لترتيب الإعفاء من الخدمة العسكرية لطلاب المعاهد الدينية وإرضاء الأحزاب الحريدية، التي ترى في ذلك خطاً أحمر للبقاء في التحالف، وملف إقرار الميزانية العامة للحكومة الذي يمكن أن يفتح شهية الحلفاء لابتزاز المزيد من الميزانيات والامتيازات، التي قد تثقل ميزانية الحكومية، المثقلة أصلاً بسبب النتائج الاقتصادية للحرب على غزة.

تزامن هذه الملفات معاً، إقرار اتفاقية تبادل الأسرى والمخطوفين ووقف إطلاق النار، الحاجة لسنّ قانون التجنيد وإقرار الميزانية، مع المصالح والأهداف المتناقضة داخل التحالف الحكومي، يمكن أن تؤدي إلى عدم استقرار سياسي وربما تفكيك التحالف الحكومي، خصوصاً إذا ما استغل هذا الوضع بن غفير وسموتريتش لإيجاد حجج جديدة للانسحاب من الحكومة. صحيح أن اتفاق تبادل الأسرى والمخطوفين ووقف إطلاق النار في غزة لا يشكل خطراً جدّياً وفورياً لتفكيك التحالف الحكومي، لكنه لا يضمن بالمقابل استمرار هذا التحالف لفترة طويلة. فضلاً عن أن الأسئلة التي ما زالت مفتوحة بالنسبة إلى قطاع غزة واليوم التالي والحالة الأمنية، يمكن أن تخلق أزمات سياسية جديدة للتحالف الحكومي ولنتنياهو.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *