العربي الجديد
لم يعد الأمر يتعلق بشكل قطاع غزة في اليوم التالي للحرب وبمن يديره، ولا بحركة حماس والسلطة الفلسطينية، ولا بخيار المقاومة المسلحة أو المفاوضات، بل صار ما يعرضه الرئيس الأميركي دونالد ترامب على الفلسطينيين هو الزوال، لا شيء أقل من ذلك. خطته التي أعلن عنها بشيء من التفصيل أمس الثلاثاء، والقاضية باقتلاع جميع سكان غزة وتوزيعهم خارج القطاع، في الأردن ومصر خصوصاً، لتستولي أميركا على هذه الأرض الفلسطينية وتهدم ما تبقّى منها وتعيد إعمارها لتكون منتجعاً عقارياً ضخماً على شاكلة “ريفييرا الشرق الأوسط”، لا يملكها أصحابها المهجرون منها، أحدثت صدمة عالمية لا بد من أن تتحوّل في أسرع وقت ممكن إلى فعل عربي بدعم مما توفّر من دول العالم، لأن الخطر لا يحدق بالفلسطينيين في غزة وحدهم، بل يطاول أيضاً بلداناً عربية، ربما لا يكون الأردن ومصر وحيدين في هذا السياق.
ولا مبالغة في القول إن نجاح خطة ترامب لاستعمار غزة وتملّكها لتصبح مشروعاً عقارياً تجارياً أميركياً ـ إسرائيلياً، من شأنه أن يطوّر أفكاراً جهنمية مماثلة في رأس ترامب ومعاونيه في واشنطن، وحلفائه في تل أبيب، للاستيلاء على بلدان عربية إضافية، لا مجازياً ولا بقرارها السياسي ولا بالاعتداء على سيادتها بشكل متقطع، بل حرفياً عبر سرقة أرضها، بما أن مساحة إسرائيل أصغر بكثير مما يفترض أن تكون عليه، على حد تعبير الرئيس الأميركي الـ47. هكذا يقف الفلسطينيون بالدرجة الأولى ومن بعدهم مواطنو البلدان العربية ومسؤولوها، على الأقل البلدان المجاورة لفلسطين، أمام خطر وجودي أكثر من أي يوم مضى، إلى درجة أن خطة ترامب القديمة المسماة “صفقة القرن” في ولايته الرئاسية الأولى، وكانت تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية، لا تقارَن بالخطر المحدق اليوم بما تبقى من فلسطين، بأرضها وشعبها. وستكون الأيام والأسابيع والأشهر المقبلة كفيلة بإظهار ما إذا كان المسؤولون العرب على دراية بحجم الخطر الذي يحدق أيضاً ببلدانهم وبمواقعهم وبسلطتهم، في حال سايروا أوامر الرئيس الأميركي وأحلامه ومؤامراته، وأحد الاستحقاقات التي ستكشف عن درايتهم أو غفلتهم سيكون تعاطيهم مع رغبة ترامب بإضافة بلدان عربية كثيرة إلى قطار التطبيع مع إسرائيل، ومعلوم أن السعودية تتصدر القائمة المطلوب أن تنضم إلى لائحة الاتفاقات الإبراهيمية. وكشف ترامب عن خطة تتيح للولايات المتحدة السيطرة على قطاع غزة وإعادة توطين الفلسطينيين في دول أخرى، سواء أرادوا المغادرة أم لا، وتحويل المنطقة إلى “ريفييرا الشرق الأوسط”.
طرح ترامب لتهجير غزة
وقدّم ترامب اقتراحه وسط استهجان ظاهر بين الحضور خلال مؤتمر صحافي مشترك مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض مساء أمس الثلاثاء. وفي خطة تفتقر إلى التفاصيل، قال ترامب إنه سيجعل القطاع “لا يصدق” من خلال إزالة القنابل غير المنفجرة والأنقاض وإعادة تطويره اقتصادياً. وأضاف: “الولايات المتحدة سوف تتولى السيطرة على قطاع غزة وسنقوم بعمل هناك أيضاً. سوف نمتلكها. وسنكون مسؤولين عن تفكيك كل القنابل غير المنفجرة والأسلحة الأخرى الخطيرة في هذا الموقع”. وأشار إلى أن هناك دعماً من “أعلى القيادات” في الشرق الأوسط. واقترح ترامب “ملكية طويلة الأمد” لغزة من الولايات المتحدة، لافتاً إلى أن خطته ستجعل من القطاع المدمر “ريفييرا الشرق الأوسط. وقد يكون هذا شيئاً بالغ الروعة”. وقال ترامب: “أرى وضعية لملكية طويلة الأمد، وأرى أن ذلك سيجلب استقراراً كبيرا لهذا الجزء من الشرق الأوسط وربما الشرق الأوسط بأسره”، مضيفا: “لم يكن هذا قرارا اتُخذ باستخفاف، كل من تحدثت إليه يحب فكرة أن تتملك الولايات المتحدة هذه القطعة من الأرض”. وتابع: “لا ينبغي أن تمر المنطقة بعملية إعادة إعمار وتوطين من نفس الأشخاص الذين (…) عاشوا هناك وماتوا هناك وكان لهم وجود بائس هناك”. وكان ترامب غامضاً بشأن تفاصيل خطة تملّك غزة، لكنه لمّح إلى أن ذلك قد يتطلب وجود قوات أميركية على الأرض “إذا لزم الأمر”. وفي تصريحات سابقة الثلاثاء، اعتبر ترامب أن الفلسطينيين “سيودون بشدة” مغادرة غزة والعيش في مكان آخر إذا أتيحت لهم الفرصة، معتبراً أن القطاع صار “موقع هدم”. وأضاف عندما سأله صحافي عما إذا كانت مثل هذه الخطوة ستؤدي إلى تهجير الفلسطينيين قسراً: “ليس لديهم بديل الآن”. وأشار ترامب إلى أن مصر والأردن أبلغا واشنطن بعدم استعدادهما لاستقبال سكان من غزة، لكنه ادعى أن هناك دولا أخرى أعربت عن استعدادها لاستقبالهم. وقال: “العديد من قادة البلدان تواصلوا معنا وأبدوا رغبتهم في إيواء سكان من غزة”.
في المقابل، أشاد نتنياهو بالرئيس الأميركي ووصفه بأنه “أعظم صديق لإسرائيل على الإطلاق”، معتبراً أن خطته للسيطرة الأميركية على قطاع غزة يمكن أن “تغيّر التاريخ”. وأعرب عن ثقته في قدرته على التوصل إلى اتفاق لتطبيع العلاقات مع السعودية، قائلا للصحافيين إنه ملتزم بجعله حقيقة. لكن السعودية أعلنت مباشرة بعد تصريحه أنها لن تطبّع مع إسرائيل دون إقامة دولة فلسطينية، وفق ما أفاد بيان عن وزارة الخارجية. وقالت الخارجية إن “السعودية لن تتوقف عن عملها الدؤوب في سبيل قيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية”، مضيفة أن “المملكة لن تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل دون ذلك”.
وأفادت صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية، نقلاً عن مسؤولين في إدارة ترامب، بأن خطة الرئيس بالسيطرة على قطاع غزة تشكلت أخيراً وعرضها على مساعديه وحلفائه في الأيام الأخيرة، ووصف المسؤولون الاقتراح بـ”المتماسك”، فيما أكدت الصحيفة أن المسؤولين من خارج الدائرة المقربة لترامب لم يعلموا بالفكرة. وقال مستشار لترامب عن اقتراحه بشأن غزة “إنه جاد للغاية بشأن هذا الأمر”.
تصريحات ترامب قوبلت بترحيب كبير على الساحة الإسرائيلية. وكتب رئيس حزب “القوة اليهودية” إيتمار بن غفير، عبر حسابه على منصة إكس، أن “الحل الوحيد لغزة هو تشجيع هجرة سكان غزة… هذه هي الاستراتيجية لليوم التالي”. من جانبه، رد وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، عبر حسابه على منصة إكس، قائلاً: “شكراً لك الرئيس ترامب”. كما تعهد العمل على “دفن” فكرة الدولة الفلسطينية “الخطيرة بشكل نهائي”. وقال وزير الطاقة الإسرائيلي إيلي كوهين إن تل أبيب لن تعارض إقامة دولة فلسطينية “لكن على أراض يتم تخصيصها في إحدى الدول العربية”. وتوالت ردات الفعل من جهات في المعارضة أيضاً، من قبيل رئيس حزب “يسرائيل بيتينو” أفيغدور ليبرمان، الذي كتب عبر حسابه: “أشكر الرئيس ترامب على التزامه المطلق بأمن إسرائيل، وتحرير جميع المختطفين (المحتجزين الإسرائيليين في غزة) وإيجاد حل عادل في قطاع غزة، يمر عبر شبه جزيرة سيناء وبالتعاون مع مصر، للقضاء على حكم حماس، وكذلك على موقفه الصارم ضد تهديدات إيران”.
استهجان فلسطيني وعربي ودولي
في المقابل، لقي طرح ترامب استهجاناً فلسطينياً ودولياً كبيراً. وقال الرئيس الفلسطيني محمود عباس في بيان: “لن نسمح بالمساس بحقوق شعبنا التي ناضلنا من أجلها عقوداً طويلة وقدمنا التضحيات الجسام لإنجازها”. وأعرب عن رفضه الشديد لدعوات الاستيلاء على قطاع غزة وتهجير الفلسطينيين خارج وطنهم، قائلاً إن “هذه الدعوات تمثل انتهاكاً خطيراً للقانون الدولي، ولن يتحقق السلام والاستقرار في المنطقة، دون إقامة الدولة الفلسطينية”.
كما دانت حركة “حماس” في بيان تصريحات ترامب، مؤكدة أن “تلك التصريحات عدائية لشعبنا ولقضيتنا ولن تخدم الاستقرار في المنطقة وستصب الزيت على النار”. كما أكد عضو المكتب السياسي لحركة حماس سهيل الهندي لـ”العربي الجديد”، أنّ الشعب الفلسطيني الذي أفشل “صفقة القرن” سيُفشل مخطط ترامب للتهجير، داعياً إلى وحدة وطنية والوقوف صفاً واحداً لمواجهة التحديات التي تعصف بالقضية والفلسطينيين. من جهتها، قالت حركة الجهاد الإسلامي في بيان “كان ينبغي على ترامب أن يتذكر أن 15 شهراً من القصف المجنون على قطاع غزة بـ80 ألف طن من السلاح الأميركي لم تفلح في تهجير شعبنا”. وأكدت أن “الشعب الفلسطيني يمتلك دوما خيار المقاومة التي يمارسها منذ ما يزيد على قرن كامل من الزمن”. فيما قالت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في بيان إن تصريحات ترامب “هي إعلان حرب على الشعب الفلسطيني، ومحاولة لإعادة إنتاج نكبة جديدة، لن تمر إلا على جثث شعبنا المقاوم والصامد في غزة وكل فلسطين”.
في موازاة ذلك، علمت “العربي الجديد” أنه من “المرجح جداً” أن يشهد الأسبوع الأخير من شهر فبراير/شباط الحالي أول قمة عربية أميركية، يرجح أن تكون مصغرة، حيث من المقرر أن يزور ترامب السعودية، لعقد قمة ثنائية مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، تتبعها قمة أميركية خليجية مع مجلس التعاون الخليجي، فيما يختتم ترامب زيارته للمملكة بقمة ينضم إليها قادة مصر، والأردن، والعراق. وبحسب مصادر مصرية، فإن هناك تنسيقاً عربياً على مستوى المجموعة التي اجتمعت أخيراً في القاهرة لتبني موقف موحد في مواجهة الخطط الأميركية والإسرائيلية الرامية لتهجير سكان غزة. ووفقا لمعلومات “العربي الجديد” حول تحركات القاهرة لتقديم خطة بديلة لنقل سكان غزة، فإن القيادة السياسية في مصر تلقت مقترحاً من دوائر مقربة من الرئاسة، يتضمن إعادة طرح ما كان قد أشار إليه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، بنقل سكان غزة للنقب، إذا كان هناك إصرار على إخراجهم بحجة إعادة إعمار القطاع طالما أن النقل يأتي لجعلهم أكثر أماناً. وشدد وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي، في لقاء جمعه برئيس الوزراء الفلسطيني محمد مصطفى، اليوم الأربعاء، على دعم مصر للحقوق المشروعة غير القابلة للتصرف الشعب الفلسطيني، والسعي نحو التوصل إلى حل سياسي دائم وعادل للقضية الفلسطينية من خلال حل الدولتين.
عربياً، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية القطرية، ماجد الأنصاري، في مقابلة مع فوكس نيوز، إن قطر منشغلة بأمر المرحلة الثانية من اتفاق غزة. وأضاف: “نعلم أن هناك صدمة كبيرة لدى الجانب الفلسطيني في ما يتعلق بالتهجير. ومع ذلك فإننا نقول مجددا إن الحديث عن ذلك سابق لأوانه لأننا لا نعلم كيف ستنتهي الحرب”. كما أكدت سلطنة عُمان، في بيان لخارجيتها، موقفها الثابت ورفضها القاطع لأي محاولات لتهجير سكان قطاع غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة.
دولياً، ندّد وزير الخارجية التركي هاكان فيدان بمشروع ترامب واصفاً إيّاه بـ”غير المقبول”. وقال فيدان في تصريحات لوكالة الأناضول إن “طرد (الفلسطينيين) من غزة مسألة غير مقبولة لا من جانبنا ولا من جانب بلدان المنطقة”. كما قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الفرنسية كريستوف لوموان في بيان: “فرنسا تكرر معارضتها لأي تهجير قسري للسكان الفلسطينيين في غزة، والذي من شأنه أن يشكل انتهاكاً خطيراً للقانون الدولي”. أما وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل ألباريس فقال للصحافيين: “غزة هي أرض الفلسطينيين سكان غزة ويجب أن يبقوا فيها”. وأكد رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر ضرورة تمكين الفلسطينيين من “العودة إلى ديارهم” في غزة.
وقالت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك إن القطاع “ملك للفلسطينيين” وينبغي أن يكون “كما الضفة الغربية والقدس الشرقية” جزءا من “الدولة الفلسطينية مستقبلا”. واعتبر وزير الخارجية الأيرلندي سايمون هاريس أن “شعب فلسطين وشعب إسرائيل لهما الحق في العيش في دولتين آمنتين جنبا إلى جنب، وهذا هو الذي يجب أن ينصب عليه التركيز”. كما انتقد رئيس الوزراء الاسكتلندي جون سويني، خطة ترامب، وقال في منشور على منصة إكس: “أي مقترح لتهجير الفلسطينيين من منازلهم أمر غير مقبول وخطير”. من جهته، اعتبر الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا أن مقترح ترامب “ليس منطقيا”. وأضاف: “أين يعيش الفلسطينيون؟ هذا أمر لا يمكن لأي إنسان أن يفهمه”.