جريدة الأخبار -
دير البلح | على سرير صغير في قسم الأطفال في مستشفى “ناصر” في خانيونس، جنوب قطاع غزة، ترقد الطفلة لميس الصفدي، البالغة سنة ونصف سنة، حيث يتقلّب جسدها النحيل بين نوبات من السعال الحادّ وصعوبة التنفس. تقول والدتها، لـ”الأخبار”: “قبل ثلاثة أسابيع، كنّا في منزلنا في خانيونس عندما وقعت غارة إسرائيلية على بعد 100 متر، وكانت سحب الدخان تنتشر في كل مكان، ولم نكن نعلم أن هذه الغازات السامّة وحدها يمكن أن تحطّم حياة طفلة بريئة”. وتسلّلت أعمدة الدخان الأسود الكثيف إلى داخل البيت، فاستنشقت لميس كميات كبيرة منه، ثم بدأت بالسعال. ظنّت الأمّ بدايةً أنه مجرّد ردّ فعل بسيط، لكن الحالة تفاقمت بسرعة.
وبعد أيام من الكحة المتواصلة وصعوبة التنفس، هرعت الأم بطفلتها إلى “مجمع ناصر الطبي” في المدينة، حيث أجرى الأطباء الفحوصات اللازمة. لكن التشخيص كان صادماً، إذ قال الطبيب إن “لميس أصيبت بالتهاب رئوي حادّ نتيجة استنشاق الدخان السام، والحالة تتطلّب تدخّلاً جراحيّاً عاجلاً لسحب السوائل التي تجمّعت حول رئتيها”. لكن الجراحة، بحسب الأم، “لم تكن خياراً متاحاً على الفور. كان المستشفى يعاني من اكتظاظ كبير، وجدول العمليات ممتلئ لأسابيع قادمة بسبب العدد الهائل من الجرحى والمرضى الذين يُنقلون إليه بفعل تدمير المستشفيات الأخرى، بحسب ما أخبرنا به الطبيب”. وفيما لا تتوقّف الأم عن المحاولة مع الأطباء لإجراء العملية لابنتها، إلا أن الإجابات لا تزال محبطة: “قالوا لي إن عليّ الانتظار. لكن كيف يمكن لطفلة صغيرة أن تنتظر؟ حالتها تسوء يوماً بعد يوم”.
على أن لميس ليست سوى واحدة من مئات الأطفال الغزيّين الذين تحوّلوا إلى ضحايا غير مباشرين للغارات الإسرائيلية، والتي إذا لم تقتل الأطفال مباشرةً، فهي تقتلهم بغازاتها السامة. ووفقاً للطبيب محمد عابد، اختصاصي طب الأطفال في المجمع والمشرف على حالة لميس، فإنه “بسبب الضغط على غرفة العمليات، نحاول مساعدة لميس من خلال العلاج بالأدوية والمراقبة الدقيقة، لكن هذا ليس كافياً على المدى الطويل”؛ علماً أن 19 مستشفى من أصل 34 موجودة في القطاع، خرجت من الخدمة، منذ بدء العدوان، فيما توقّف 68 مركزاً صحيّاً عن تقديم الخدمات للمرضى.
“أمل تنتظر الحياة”
في خيمة صغيرة وسط دير البلح، تجلس الطفلة أمل مسعود (8 أعوام)، مستلقية على والدتها، فيما جسدها الهزيل ووجهها الشاحب، وصوتها المتقطّع بالسعال المستمرّ يعكس معاناتها الطويلة مع الالتهاب الرئوي الحادّ الذي أصيبت به قبل نحو شهر. ويقول والدها، عبد العزيز، الذي نزح مع عائلته من بلدة بيت حانون شمال القطاع إلى دير البلح، لـ”الأخبار”: “كلما استمعت إلى سعالها، أشعر كأن قلبي يُنتزع من مكانه”، موضحاً أنها أصيبت بهذا المرض بسبب البرد القارس الذي يحلّ ضيفاً دائماً على الخيام، “وحين ازداد وضعها الصحي سوءاً، نقلتها إلى مستشفى الأقصى في دير البلح. وبعد إجراء الفحوصات، أخبرني الطبيب بضرورة إجراء تدخّل جراحي عاجل لإزالة السوائل المتجمّعة حول رئتيها، والتي أصبحت تهدّد حياتها”. ولكن اكتظاظ المستشفيات بالمرضى، وفقاً لعبد العزيز، حال دون إجراء العملية لابنته، وهو ما دفعه إلى “اصطحابها إلى مستشفى خاص لإجراء العملية على نفقتي الخاصة، ومن المقرّر أن تجرى العملية بعد أربعة أيام”. ويضيف الوالد: “أشعر بالعجز. حتى الأطباء لا يستطيعون فعل شيء بسبب الأوضاع. الحرب لم تدمّر فقط منازلنا، بل دمّرت حياتنا كلها”.
تفشي المرض بسبب الحرب
بالعودة إلى الطبيب عابد، فإن “قطاع غزة يشهد ارتفاعاً كبيراً في حالات الإصابة بالالتهاب الرئوي الحادّ بين الأطفال. قبل الحرب، كانت تصل حالة أو حالتان من هذا المرض شهرياً. أمّا اليوم، فإن المستشفى يستقبل أكثر من خمسين حالة شهرياً، يحتاج ما لا يقلّ عن خمس منها إلى تدخلات جراحية”. ويوضح، لـ”الأخبار”، أن “الغارات المستمرّة منذ أكثر من 15 شهراً، والتي تستهدف القطاع بالقنابل والصواريخ المحمّلة بالمواد السامة، تلعب دوراً كبيراً في تفاقم المشكلة”، مضيفاً: “هذه المواد السامّة تتسبّب في تأثيرات سلبية على جهاز المناعة لدى الأطفال، ما يجعلهم أكثر عرضة للإصابة بالأمراض التنفسية. كما أن الركام المتناثر والتلوّث الكبير في الهواء والماء، يساهمان في زيادة هذه الحالات”. ويشرح عابد أن المرضى المصابين بالالتهاب الرئوي الحادّ غالباً ما يحتاجون إلى تدخّلات جراحية لتنظيف الرئتين من الصديد المتراكم عليهما، وأن هذه العمليات “تُجرى عبر أنبوب خاص يتم إدخاله في جسم الطفل، ويظلّ هذا الأنبوب داخل الجسم حتى يتم التخلّص الكامل من الصديد”. وبحسب الطبيب، “تظهر أعراض هذا المرض في البداية بارتفاع شديد في درجة الحرارة، يرافقه سعال حادّ، وضيق في التنفس في بعض الحالات. وفي كثير من الأحيان، لا تستجيب هذه الحالات للعلاجات التقليدية أو المضادات الحيوية”. كما يلفت إلى التأثيرات المدمّرة للمجاعة وسوء التغذية والبرد على صحة الأطفال، قائلاً: “غياب الفواكه والخضر واللحوم والمجمدات من الأسواق، بالإضافة إلى عدم توفر المكملات الغذائية التي يمكن أن تعوّض هذا النقص. هذه العوامل مجتمعة تؤدي إلى إضعاف صحة الأطفال، ما يجعلهم أكثر عرضة للإصابة بالأمراض الشديدة مثل الالتهاب الرئوي”.