تركت آراء الحاخام والمفكر اليهودي “تسفي كاليشر” المولود في إحدى المقاطعات البولندية الغربية عام ١٧٩٥ آثارا عميقة في الفكر الصهيوني.
وقد آمن “كاليشر” بأن خلاص اليهود لن يتم إلا بعودة اليهود إلى فلسطين وعدم ربطها بظهور “المسيخ المنتظر”. ودعا إلى هجرتهم بمساندة من أثريائهم وكسب موافقة الأمم. وقد قصد بموافقة الأمم أي أن تتم الهجرة تحت حماية وتأييد إحدى الدول الكبرى.
وبالفعل توجه “كاليشر” في ذلك الوقت إلى بريطانيا ودعا أثرياء اليهود إلى دعم وتوطين اليهود في فلسطين، بينما يؤدي هو وزعماء الطوائف الدينية اليهودية وسط وشرق أوروبا الدور الضاغط لتحقيق عملية التهجير.

وقد نشر “كاليشر” كتابا عام ١٨٦٢ بعنوان “البحث عن صهيون”، كانت لأفكاره أكبر الأثر في جماعة “أحباء صهيون” فيما بعد.
وأفرد فصلا في ذلك الكتاب عن أهمية العمل اليدوي والاستيطان الزراعي في فلسطين. كما دعا في الكتاب إلى عقد مؤتمر عام لزعماء اليهود وأثريائهم بهدف تأسيس “جمعية استيطان أرض إسرائيل” مهمتها التشجيع على الاستيطان اليهودي في فلسطين عن طريق شراء الأراضي وبناء المستوطنات.

وكان من نتيجة ذلك أنه نجح عام ١٨٦٨ في التأثير على أولئك الأثرياء ودفعهم لشراء قطعة الأرض التي أقيمت عليها مدرسه “مكفية إسرائيل الزراعية”.
واقترح انشاء جماعات تجمع بين العمل الزراعي والعسكري لحماية المستوطنات من خطر العرب. كما دعا إلى استعمال السلاح دفاعا عن تلك المستوطنات وملاحقة ما أطلق عليهم “اللصوص العرب” في العمق العربي.

واليوم لا زال منطق “كاليشر” يعشش في نهج دولة الاحتلال، تستخدمه لتبرير توسعها الاستيطاني، عن طريق شن ما تسميه “الحروب الوقائية” بحجة القضاء على المقاومة الفلسطينية “المخربين” و “الإرهابيين”.

فما آراء قادة الاحتلال إلا امتدادا لآراء وضعت قبل قرابة الثلاث قرون من الزمن. سواء من ما طرحه “كاليشر” من التحالف مع قوى إمبريالية أو من تفريغ البلاد من أصحابها الشرعيين بحجة الدفاع عن النفس وإتاحة الفرصة لليهودي “المتحضر” أن يستقر في البلاد “الموحشة المتخلفة”.

وبعد السابع من أكتوبر/٢٠٢٣ لم يختلف شيء من تلك الطروحات والآراء، فجيش “نتنياهو” أباد عشرات الآلاف من المدنيين في غزة بحجة القضاء على المقاومة الفلسطينية، والهدف هو السيطرة عليها وخاصة شمال القطاع. فبالتزامن مع بدء العملية البرية في لبنان كما جاء في صحيفة “هآرتس” العبرية تتعالى الأصوات التي تدعو الجيش “الإسرائيلي” بتطبيق “خطة الجنرالات”.

حيث تتضمن هذه الخطة إخلاء شمال القطاع من سكانه وتحويله إلى منطقة عسكرية مغلقة تحت سيطرة جيش الاحتلال لقطع المساعدات الإنسانية عن الشمال بهدف القضاء على المقاومة الفلسطينية وإنهاء الحرب على غزة.
بينما الهدف الحقيقي من العملية هو تغيير خارطة التواجد السكاني الفلسطيني بتفريغ القطاع وتوسيع حدود دولة الاحتلال.

فما يميز عدونا أنه يستفيد من أفكار و أيديولوجية من سبقه من يهود. أما نحن الذين وصل قادتنا في عصر الفتوحات الإسلامية إلى حدود فرنسا وغربي الصين فنركن إلى الاستسلام واللامبالاة وعدم الاستفادة من ذلك التاريخ المشرف الذي هرع الغرب للاستفادة منه. وتعدى الأمر أن نبذت حكوماتنا الجندية وصنعت جيلا مائعا بدلا من حمل البندقية، حمل الآيفون والآيباد وانزوى وحيدا يمارس ألعابا وضعتها له آلة العدو، حتى وصل حد الإدمان عليها.
كل هذا كان من الأسباب التي ساهمت في دفع “نتنياهو” قبل أيام إلى اعتلاء منصته مهددا ومهاجما لمن يتجرأ على دولته، فما كان من أحدهم ممن هو محسوب علينا يرفع صوته بالإنجليزية قائلا “لا حل أمامنا سوى التطبيع مع إسرائيل”.
فإلى متى والقمامة تعتلي رؤوسنا، تتكلم باسمنا وتزيد من إذلالنا وبؤسنا وقلة حيلتنا؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *