خلال حفل تخرج للجيش في مدينة القضارف، 5 نوفمبر 2024 (فرانس برس)

العربي الجديد

يشهد ميدان المعارك العسكرية في السودان هذه الأيام أكبر تحولاته منذ بدء الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع، في 15 إبريل/ نيسان 2023. وفي اليوميين الماضيين وحدهما، فرض الجيش السوداني واقعاً جديداً، إذ استعاد مدناً إضافية في ولاية الجزيرة وسط السودان من “الدعم السريع”، مثل مدينة الحصاحيصا، ثاني أكبر مدن الولاية بعد عاصمتها ود مدني، والتي سيطر عليها الجيش قبل أكثر من ثلاثة أسابيع. كذلك سيطر على مدن أخرى مثل رفاعة، ذات الرمزية التاريخية لمنطقة شرقي الجزيرة نظراً لكونها مقر نظارة قبيلة الشكرية، وهي واحدة من أبرز القبائل في المنطقة، إلى جانب استحواذه على تمبول والهلالية وأبو عشر وطابت والمسلمية وودرواة. كما استعاد في عملياته العسكرية الأخيرة، أكثر من 120 قرية في جنوبي وشرقي وشمالي ولاية الجزيرة.

اختراقات الجيش السوداني

تأتي هذه الاختراقات العسكرية للجيش، بتحركه هو والقوات المتحالفة معه، مثل قوات درع السودان والمقاومة الشعبية، على ثلاثة محاور. أولها المحور الغربي المُحاذي لنهر النيل الأزرق، حيث توغل الجيش السوداني في هذا المحور على امتداد طريق الخرطوم مدني، أشهر الطرق، ويمتد طوله نحو 200 كيلومتر، وتقع على جانبيه معظم المدن والقرى التي تمت السيطرة عليها، وفيه تمكن الجيش حتى الآن من قطع نصف المسافة تقريباً نحو ولاية الخرطوم. ووصل الجيش إلى حدود مدينة الكاملين في ولاية الجزيرة، الواقعة على نحو 95 كيلومتراً من الخرطوم العاصمة، وإذا تجاوز الكاملين يكون الطريق مفتوحاً أمامه حتى منطقة الباقير أو مدينة جياد الصناعية التابعة لهيئة التصنيع الحربي، الواقعة على بعد 50 كيلومتراً جنوب الخرطوم. وتضم الكاملين أكبر ارتكازات (مواقع) دفاعية للدعم السريع، وفي حال انهيارها لن يواجه الجيش ارتكازات أخرى إلا في المنطقتين (الباقير ومدينة جياد)، وسيواجه بعدها تحدي دخول العاصمة الخرطوم من نواحيها الجنوبية الشرقية. يجد هذا المحور دعماً وإسناداً من المحور الثاني في مدينة المناقل، غربي الجزيرة، والذي يتحرك فيه الجيش لإعادة السيطرة على المدن والبلدات الواقعة داخل مشروع الجزيرة الزراعي، ما سيُمكّن الجيش السوداني والقوات المتحالفة من الدخول إلى الخرطوم من نواحيها الجنوبية الغربية.

أما المحور الثالث والأكثر نشاطاً، فهو محور شرقي الجزيرة، حيث تقود العمليات العسكرية فيه، قوات درع السودان بقيادة اللواء أبو عاقلة كيكل، وهو قائد انشق في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، عن قوات الدعم السريع. ومن المفارقات أن كيكل هو من قاد قوات الدعم السريع للسيطرة على ولاية الجزيرة في ديسمبر/كانون الأول 2023، ويقود حالياً معارك تحريرها من “الدعم”. أنجز محور شرق الجزيرة، في اليومين الماضيين، السيطرة على كبريات المدن، وتحرك باتجاه الخرطوم، على خط طريق الخرطوم مدني الشرقي، بمحاذاة الضفة الشرقية للنيل الأزرق، ووصل حتى حدود ولاية الخرطوم بالقرب من مدينتي أم ضوبان والعيلفون، فيما تعهد كيكل في آخر مخاطبة لجنوده قبل أيام، بتحرير الخرطوم عاجلاً.

وفي مدينة العيلفون يُتوقع للقوات التي يقودها كيكل، الحصول على إسناد من قوات الجيش السوداني المتحصنة داخل مقرها، منذ فترة طويلة، بسبب سيطرة “الدعم” على المدينة.  كما يمكن لدرع السودان، الحصول على دعم أو تنسيق العمليات مع متحرك (وحدات) للجيش آتٍ من منطقة حطاب، التي تربط بين شرق النيل ومصفاة الجيلي الواقعة على نحو 70 كيلومتراً شمال الخرطوم، حيث واحد من معسكرات الجيش الكبيرة. وقريباً من ولاية الجزيرة، تنشط قوات الجيش والقوات المتحالفة معه بولاية النيل الأبيض، في التحرك شمالاً تجاه الخرطوم العاصمة، ونجحت في اليومين الماضيين في التقدم، إذ باتت على مقربة من مدينة القطينة في النيل الأبيض، الواقعة على بعد 90 كيلومتراً جنوب العاصمة.

الهدف دخول الخرطوم

تبدو خطة الجيش واضحة لدخول الخرطوم من محاور عدة، وإشغال مليشيات “الدعم السريع” بعدد من المعارك حتى يتمكن من استعادة المدينة بالكامل، لا سيما أن مدينة الخرطوم تضم العديد من المواقع الاستراتيجية والمهمة والرمزية، مثل القصر الجمهوري ومقرات الوزارات، ومقرات عدد من الوحدات العسكرية والأمنية ومطار الخرطوم، وكانت استولت عليها “الدعم السريع” في الأيام الأولى من الحرب. ورغم تقدم الجيش السوداني وفكّه الحصار عن مقر قيادة الجيش بالخرطوم، الشهر الماضي، وتقدمه باتجاه منطقة المقرن داخل المدينة، إلا أن “الدعم السريع” لا تزال تحتفظ بسيطرة على أغلب أحياء العاصمة، وعلى مطار الخرطوم، والقصر الرئاسي، ومنطقة جبل أولياء الواقعة على بعد 40 كيلومتراً جنوب العاصمة. 

كما تحتفظ بالسيطرة على ثلاثة جسور مهمة هي، سوبا والمنشية وكوبر، وتملك “الدعم السريع” خط إمداد من أم درمان إحدى مدن ولاية الخرطوم، عبر جسر خزان جبل أولياء الرابط بين الخرطوم والأنحاء الجنوبية لأم درمان.  غير أن تقارير عدة وشهود عيان يتحدثون عن تحول الجسر لعبور قوات الدعم السريع الفارين من المعارك في الجزيرة والخرطوم. وببيّن هؤلاء لـ”العربي الجديد”، أن انسحاب مجموعات من “الدعم السريع” وعبورها عبر جسر جبل أولياء، تسبب في فراغ أمني وفوضى واسعة بمناطق جنوب الخرطوم، فيما يأمل المواطنون هناك بوصول الجيش إليهم لسد ذلك الفراغ.

تغيّر مسار العمليات

يقول مستشار قوات درع السودان، يوسف عمارة، إن “الانتصارات التي حققها الجيش في الفترة الأخيرة، تمثّل دفعة كبيرة في المسار الكلي للعمليات في السودان”، مشيراً في حديث لـ”العربي الجديد”، إلى أن “قوات درع السودان أسهمت بدور كبير فيها عبر محاور شرق الجزيرة والبطانة (أي ولايات كسلا والقضارف والجزيرة ونهر النيل والخرطوم)”. ويوضح عمارة أن تلك القوات “تتوغل الآن داخل منطقة شرق النيل بولاية الخرطوم، وتعمل عبر جهود واسعة عملياتية وأمنية لتحرير المنطقة بالكامل، وذلك بتوظيف البعد الاجتماعي في العملية بحكم أن عدداً من الفاعلين في قوات درع السودان ينتمون لتلك المنطقة ويعلَمون جيداً تفاصيلها”. ويضيف أنهم “يعملون على المشاركة الفاعلة بعد ذلك مع الجيش السوداني في تحرير إقليم دارفور، غربي البلاد، ثم العمل مع كافة الفصائل في مجالات إعادة الإعمار والإسهام في نشر السلم الاجتماعي”. أما عن انشقاق كيكل، فيقول عمارة، إنه “أثّر بشكل كبير في مليشيا الدعم السريع، وذلك بنزع غطاء التنوع الذي تدعيه”، كما تسبب “في تصدع قيادة المليشيا وأفقدها القدرة على استعادة توازنها بعد الهزائم العسكرية”.

من جهته، يجزم المحلل السياسي والأستاذ الجامعي، أبو بكر سيد أحمد، أن “المعارك والانتصارات الأخيرة للجيش تمثل هزيمة واضحة للدعم السريع ونهاية لها، إذ لم تتبق إلا معارك صغيرة”، مضيفاً في حديث لـ”العربي الجديد”، أن “الدعم السريع قد تحقق بعض الانتصارات المعزولة، دون تغير في النتيجة النهائية للحرب”. ويوضح أن “الدعم السريع فقدت معركتها السياسية، منذ بداية الحرب، عندما جعلت من استهداف المدنيين بأرواحهم ومالهم وأعراضهم هدفها الأول، فيما فقدت الحرب عندما أعاد الجيش (ترتيب) صفوفه وحرم الدعم السريع من خاصية الترهيب بفتحه جبهات متعددة في وقت واحد، والتفاف الشعب حول جيش الدولة عندما عرف الناس أن الدعم السريع تستهدفهم، وأدركوا رغبتها في إسقاط الدولة السودانية واستتباعها لمحاور خارجية”. وعن تقدم الجيش السوداني، يشير سيد أحمد إلى أن “الجيش حقق انتصارات كبيرة على قوات الدعم السريع في ولايتَي الجزيرة والخرطوم، ما غيّر موازين القوى العسكرية بشكل جلي، لا سيما منذ تحرير ود مدني وبقية مدن الجزيرة، وتحركه داخل الخرطوم، وفك الحصار عن مقر قيادة الجيش ومقر سلاح الإشارة وإعادة الانتشار في مدينة الخرطوم بحري”.

أما المناطق المتبقية تحت سيطرة “الدعم السريع” في الخرطوم، وفق سيد أحمد، فهي محددة “وسيكتمل تحريرها مع الانهيار الحاصل للدعم في الخرطوم، وأصبح كل شيء مسألة وقت”، مشيراً إلى ما وصفه بـ”الصمود الأسطوري لمدينة الفاشر (عاصمة ولاية شمال دارفور) غربي البلاد، ما هزم عنجهية الدعم السريع، وأثر على المعركة الكلية في البلاد”. وفي إشارة إلى اختراقات الجيش الأخرى، يقول سيد أحمد إن الجيش السوداني يحقق اختراقات “بتحرير أم روابة بشمال كردفان، وتقدمه نحو مدينة الرهد وصولاً إلى مدينة الأُيض عاصمة الولاية، لفك الحصار عنها”، مشيراً إلى أن ذلك “يؤكد أنه سيتم اقتلاع الدعم السريع اقتلاعاً من ارض السودان، ومن الآن وصاعداً سيكون للسودانيين دولة، يمكنهم فيها أن يتفقوا أو يختلفوا في حكمها بالأدوات السياسية السلمية”.

إلى ذلك يرى أستاذ الدراسات الاستراتيجية، اللواء المتقاعد محمد خليل الصائم، أن العمليات العسكرية تمضي كما هي محددة من قبل القوات المسلحة “بالتخطيط السليم، واستنزاف العدو في الفترة السابقة وقطع خطوط إمداده من غرب السودان ومثلث ليبيا (منطقة صحراوية بين السودان وليبيا) وتنفيذ عمليات جوية”. ووفقاً للصائم، قاد كل ذلك إلى “تحقيق نتائج جيدة جداً بدءاً من انتصارات الجزيرة، فيما تتقدم القوات الآن من كل الجهات بما في ذلك عبر جبل أولياء”. أما عن الأهداف اللاحقة للجيش، فيقول الصائم في حديث لـ”العربي الجديد”، إن “الأهداف العسكرية المتبقية، هي استعادة إقليم دارفور كاملاً، حتى لا يتبقى من الدعم السريع شيء (تحت سيطرتها)”. وعن أبرز أسباب انهيار “الدعم السريع”، فإنه يرجعها إلى “فقدانها للقيادة والسيطرة منذ فترة طويلة، وقطع خطوط الإمداد، وعدم وجود عقيدة قتالية وقضية يقاتل من أجلها جنودها، عدا الظلم الذي مارسته ضد المواطنين”. ويضيف أن هذا الظلم “وصل إلى حد قصف المدنيين بالمدافع واتهام القوات المسلحة بذلك، والتي لا يمكن أن تقصف مواقع تسيطر مسيطرة عليها”.

لكن الناطق الرسمي باسم القوى المدنية المتحدة، عثمان عبد الرحمن، يرى أن “الدعم السريع” لم تخسر المعركة بعد، و”هو ما يظهر جلياً بعد أن اتضح للشعب السوداني أن الجيش السوداني لا يزال مختطفاً، وأن نيّات النظام البائد (نظام عمر البشير الذي سقط عام 2019) من قتل وتشريد باتت ظاهرة للعيان في ود مدني وأم روابة”. ويتوقع في حديث لـ”العربي الجديد”، أن “يساهم الغضب الشعبي في تراجع وتيرة العمليات الحربية للجيش”، مشيراً إلى أن “الحروب وبشكل عام تمر عادة بمراحل مختلفة”. ويحذّر عبد الرحمن “من تنامي الانقسامات المجتمعية التي هي جزء من مخطط النظام البائد وخداعه لبعض شرائح المجتمع التي حملت السلاح، وذلك ضد تطلعاتها ومستقبلها”، مضيفاً أن “قوات الدعم السريع لن تنتهي، وسيكون لها وجود فعلي، وسيطرة فعلية على أرض الواقع”. ويعود ذلك بحسب قوله، إلى أنه “لا توجد قوى عسكرية جادة وصادقة في دعم التحول المدني الديمقراطي”، تجد التأييد من المجتمع والقوى السياسة. ويعتبر أن “الدعم السريع تختلف عن الجيش، لأنها ليس لديها أطماع في السلطة، بينما الجيش معروف في توجهاته وقراراته وكلها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *